الشهيدة: السائل بنينة - زوليخة عدي-

الشهداء يعودون

الشهيدة: يمينة الشايب (زوليخة عدي).


حلقت بها طائرة الهيليكوبتر عاليا، أراد المستدمر أن يجعلها عبرة لكل نساء الجزائر، لكنه منحها فرصة لتشاهد أرض الجزائر من السماء. أرادت فرنسا أن تعاقبها على حبها لوطنها، لكنها جعلتها تلقي النظرة الأخيرة على حبيبتها الجزائر قبل استشهادها. رغم قسوة التعذيب الذي تعرضت له، لكنها ودعت وطنها بابتسامة عميقة و هي تتنسم آخر نسمة هواء لها قبل أن يرميها جلادها الفرنسي من طائرة الهيلكوبتر و هي في وثاقها وتستقبلها أرضها و تحتضن جسدها الطاهر بكل حنان. أراد المستمدر أن يعاقبها و يعاقب كل من تسول له نفسه أن يقف ضد همجية فرنسا، لكنه فشل فشلا ذريعا، و خرج من أرض الجزائر منكسر الشوكة ذليلا مدحورا. إنها الشهيدة يمينة الشايب رحمها الله و أسكنها فسيح جناته.

   هي يمينة الشايب ابنة “السي إبراهم الشايب” وزوجة الشهيد “أحمد أوداي” والمعروفة بـ ” زوليخة أوداي” ولدت في 07 ماي 1911 بمدينة حجوط ” مارنغو ” سابقا، تقع غرب الجزائر ولاية تيبازة، نشأت في عائلة ثورية، قدمت العديد من الشهداء في سبيل الوطن. وكبرت في مدينة شرشال وهي "مدينة ساحلية غرب الجزائر".

   كان والدها إبراهيم الشايب ميسور الحال و يتمتع بمكانة اجتماعية مرموقة، كان متعلما يكره الإستعمار الفرنسي، ومناضلا سياسيا في” نجم شمال إفريقيا” و”حزب الشعب” ومستشارا في البلدية، و عضوا مؤسسا ورئيسا” لهيئة المدارس الأهلية”. كان متشبعا بالروح الوطنية، و من المساهمين في خدمة الثورة التحريرية. ‏في هذا الوسط كبرت و ترعرعت يمينة الشايب، درست بجدية وتحصلت على شهادة الأهلية، كانت تتقن اللغتين العربية و الفرنسية، و تتمتع بذكاء و سرعة بديهة. كانت تتمتع بشخصية قوية. فقدها لشقيقها خلال الحرب العالمية الثانية أثناء تجنيده، ترك أثـراً عميقاً في نفسها. بعد زواجها من الحاج أحمد عوداي انتقلت للعيش بمدينة شرشال.

   كرهت الوجود الفرنسي على أرض الجزائر، مما جعلها تنخرط في صفوف النضال مبكرا عن قناعة، كان عمرها 16 سنة لكنها كانت تتنقل بحذر أمام أعين القوات الفرنسية، فلم تتمكن منها وهي تتحرك من مكان إلى آخر. كانت كتومة لأسرار الثورة و تتقن التخفي و التنكر، تغير من هيآتها و لباسها وهي تحمل المال والرسائل والأدوية. ولم تتمكن منها قوات الإستدمار الفرنسي، حتى لما استشهد الجنديان محمد وَعَبَد الرحمان مباشرة بعد خروجهما من بيتها، وهي تسمع وابلا من الرصاص يخترقهما لتركض إليهما تضمهما وتغمس منديلها في دمهما. ولَم تتمكن منها وهي تنط ليلا من سطح لسطح في عين القصيبة لترى أبناءها وتعطي أوامرها وتعليماتها للمناضلين والفدائيين الذين كانوا في الخلية السرية. 

 كانت تمتاز بالنشاط و الحيوية و الحركة المستمرة بين عدة أماكن، مما جعلها محط اهتمام لدى السلطات الفرنسية، فوضعتها تحت مراقبة رجال الأمن الفرنسيين. لكنها كانت حريصة جدا على عدم اكتشاف امرها، مما صعب على قوات الأمن القبض عليها. و حتى تبعد شكوك قوات الأمن الفرنسية عنها و عن المناضلات الأخريات، عاشت يمينة الشايب حياة عادية، كأي إمرأة أخرى، تمارس مهامها اليومية كزوجة و كأم. 

   عندما تم اكتشاف أمر الخلية الجهادية التي كان يعمل معها زوجها في المنطقة، و مخافة أن يتم القبض عليهم صعدوا إلى الجبل و التحقوا بصفوف المجاهدين. و هنا القيت المسؤولية التامة في المنطقة على عاتق الشهيدة يمينة، و صارت هي المسؤولة الأولى. عندما استشهد زوجها في يوم 4 ديسمبر 1956، حيث قتل مع ابنها لحبيب الذي كان يبلغ من العمر 24 سنة وقطعت فرنسا رأسه بالمقصلة. أشرفت بنفسها على مراسيم دفنه، و استرجعت أغراضه و أمواله وساعته عن طريق محامي كلفته بالقضية. حتى أن محافظ الشرطة "كوستا” (Costa) صرخ قائلا لرجاله:"من أية طينة خلقت نساء هذا الشعب، لو كان مثلها خمسة رجال في شرشال لأخذت حقيبتي ورحلت".

  ‏قامت المناضلة يمينة الشايب بجمع الأموال وتوفير كل متطلبات المعيشة والدعم اللوجستي للمجاهدين، وقد حاولت السلطات الفرنسية مطاردتها وإلقاء القبض عليها إلا أنها لم تتمكن من معرفة حقيقة النشاط الذي تقوم به ولا دورها تجاه المجاهدين. ومن أبرز ما قامت به المناضلة يمينة الشايب هو دورها الريادي في نشر الوعي الوطني، وإفشال المخططات الفرنسية في كسر شوكة الثورة وعزلها عن عموم الشعب الجزائري.

    لما اشتد ضغط قوات الأمن الفرنسية عليها دخلت في مرحلة السرية التامة، وقامت بتنظيم خلايا جهادية جديدة في شبكتها العنكبوتية، و تحول المركز الأساسي إلى بيت المجاهدة “لالة البية ” التي كانت تعمل قابلة، والتي تعود المستعمر على تحركها للتوليد، وتردد النساء عندها للتداوي ، ولأن بيتها قرب المركز العسكري فلا أحد سيشك في أنه مركز للثورة. كانت الخلايا تتشكل من مناضلات شابات لا يتعدى عمر الكبيرة فيهن 25 سنة.

   التحقت المناضلة يمينة الشايب بصفوف الثورة وجاهدت في جبل (سيدي سميان) في مدينة شرشال الساحلية غرب الجزائر، لتواصل كفاحها، ونظرا لخبرتها الطويلة في النضال، تم اختيارها لتخلف المجاهد "أبو القاسم العليوي" في قيادة الجيش الجزائري في المنطقة عقب استشهاده أثناء القيام بدوره البطولي الوطني والنضالي ضد المحتل الفرنسي. كما قامت بتكوين خلايا مقاومة في القرى المجاورة لشرشال، وكانت تجمع المؤن والمال لشراء السلاح، و ساهمت في توفير الأدوية لعلاج جرحى المجاهدين.

   ألقي عليها القبض في 15 أكتوبر 1957م بعد عملية بحث وتمشيط قامت بها قوات الإحتلال الفرنسي استهدفت جبال (بوحرب) و(سيدي سميان)، حيث وقعت المناضلة يمينة الشايب في قبضة المحتل الفرنسي· وفي يوم اعتقالها في 15 اكتوبر 1957، ‏قامت قوات الإحتلال الفرنسي بممارسة الإرهاب النفسي عليها و على المواطنين، فتم ربطها في سيارة عسكرية وتم جرها وتعذيبها في الشوارع، وكان الهدف من ذلك جعلها عبرة لكل من تسول له نفسه الوقوف ضد فرنسا، ولترويع المواطنين و تخويفهم. كان الضابط الفرنسي المجرم ينادي بأن كل من يتمرد على فرنسا هذا هو جزاؤه، وأن فرنسا لن ترحم أحدا ولو كن نساء أو أطفالا. لكن الشهيدة يمينة صبرت صبراً فاق صبر الصابرين ولم تبح بكلمة واحدة ضد المناضلين الجزائريين حتى نفد صبر المحتلين الفرنسيين. 

   حاول أحد القادة الفرنسيين وكان رائداً في جيش الإحتلال الفرنسي أن يفت من عزيمة الشعب الجزائري، وأن يقنع المواطنين بأن المقاومة الجزائرية قد انتهت بالقبض على يمينة الشايب، فقام بتوجيه كلمة إلى المواطنين الجزائريين، قال فيها: "هاهي المرأة التي تحدثتم عنها وصدقتم أنها تستطيع مواجهة الفرنسيين، الثورة انتهت ولقد قضينا على كل أتباعها".

هنا نظرت يمينة الشايب بشموخ في جموع المواطنين وخطبت فيهم قائلة: "يا إخوتي! أنظروا كيف كبَّلت فرنسا إمرأة رغم أني دون سلاح، لا تصدقوهم، الثورة لا تزال قائمة، واصلوا حتى النصر والإستقلال"، وصرخت في المواطنين “ما تخافوش روحوا للجبل وحرروا الوطن، شفتوا فرانسا لقوية واش جمعت من عسكر وسلاح على امرأة (وبصقت على وجه الرائد الفرنسي) في حركة منها لقلب الموازين والرفع من همم ومعنويات الشعب الجزائري، وقد تم بالفعل إثبات ذلك في محضر الشرطة. 

 بعد هذا الموقف الشجاع من المجاهدة زوليخة قام الجنود بتفريق المواطنين بعد خسارتهم للرهان الأخير.

   ‏تعرضت لأبشع و أشد أنواع التعذيب و العذاب لمدة 10 أيام بمنطقة "غردوس" تحت إشراف العقيد الفرنسي "جيرار لو كونت"، و لكنها لم تبح بأسرار الثورة و لم تكشف اسرار المجاهدين و المناضلين، كانت دائما تقول لأهلها ” لن أعترف حتى لو أحرقوني مثل جان دارك”.تقول المجاهدة الجزائرية "بن مقدم"، خلال لقاء لها مع المجاهدين الجزائريين، أنه "لو كشفت زليخة (يمينة الشايب) عن أسرارها لما كنا هنا اليوم، ولربما كنا في عداد الموتى". و نظرا لاصرارها على عدم البوح بأسرار إخوانها و أخواتها تم اتخاذ قرار بإعدامها رمياً من طائرة هيلوكوبتر في 25 أكتوبر 1957م. 

 بعد 10 أيام من التعذيب و التنكيل بالمجاهدة الصابرة يمينة وفي يوم 25 أكتوبر سنة 1957م قرر قادة الإحتلال الفرنسي اعدامها وقتلها برميها من على متن طائرة هيلوكوبتر من علو شاهق، بطريقة وحشية وهمجية، حيث أوثقوا كتافها وأركبوها طائرة هليكوبتر وبعد إرتفاعها الشاهق ألقوها وهي حية على صخور جبال " سيدي سيمان، وكان عمرها 46 سنة، لتترك وراءها ابنتيها الصغيرتين، وابنها "أوداي" الذي أصبح جنرالاً في الجيش الشعبي الوطني فيما بعد.

 بعد 27 عاماً من استشهادها وكان ذلك في عام 1984م. تم التعرف على قبر الشهيدة الجزائرية يمينة الشايب، وكانت الصدفة البحتة سبباً في العثور عليه، حيث حكى أحد الشيوخ بأنه في يوم من أيام سنة 1957م كان مارا على الطريق في منطقة "واد عيفر” المكان الذي رميت فيه الشهيدة، وجد إمرأة مهشمة وهي موثوقة الكتاف فحملها ودفنها... دلهم الشيخ على المكان الذي قام بدفن تلك المرأة فيه!! فقام أهلها و من معهم بالحفر ووجدوا بالفعل عظام وحبال إعدامها، ووجدوا بقايا الفستان الذي كانت ترتديه وقت إعدامها، مما ساعدهم على التعرف عليها. ليحل لغز إختفائها، تم نقل جثمانها و تم دفنها في مقبرة الشهداء في المناصر في منطقة شرشال.

   رحلت الشهيدة الجزائرية يمينة الشايب التي دوخت جلاديها، ولكن ذكراها مازالت راسخة في قلوب و عقول الأحرار. لأن سير و بطولات هؤلاء تبقى خالدة في تاريخ الشعوب و الأمم. كانت آخر كلمآتهآ:"إخواني، كونوا شهداء على ضعف الكيان الإستعماري الذي سلط جنوده وأسلحته ضد إمراة واحدة .. وَ واصلوا كفاحكم حتى يرفرف العلم الوطني". رحم الله الشهيدة زوليخة و رحم الله الشهداء الأبرار. 


✍️ بقلم الصديق : الأستاذ بدرالدين ناجي



 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الشهيدك أحمد بن دريميع -أحمد لمطروش-

الشهيد: مصطفى بن بولعيد

الشهيد عيدوني احمد