الشهيد: العايش عبد القادر
الشهيد: العايش عبد القادر
التاريخ ذاكرة الشعوب ولكل أمة تاريخ لا يمكن لها العيش دونه لأنه بمثابة الروح في الجسد، والشهداء رحمهم الله روح الجزائر الخالدة ضحوا بأنفسهم الغالية من أجل أن تعيش الجزائر حرة مستقلة. ومن واجبنا نحوهم تخليد ذكراهم وتجديد عهدنا بهم كل ما سمحت الظروف وسنحت الفرص، كيف لا وهم الذين قال الله فيهم : "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون".
وها هي بلدية الدحموني بولاية تيارت "تريملي أثناء الإحتلال" يزخر تاريخها بأسماء كثيرة من أبنائها الذين نذروا أنفسهم لنحيا نحن، وسطروا شطرا لا ينشطر من تاريخها يفخر به الأحفاد وتزدان به ذكرى الأجداد ، من بين هؤلاء الشهيد العايش عبد القادر وكوكبة من أبطال الدحموني الذين لا تسعهم قائمة ولا ينصفهم مقال.
مما يرويه عنه اخوه العايش ابراهيم قائلا:
" كنا نسكن في حضن الكاف بدوار العويسات بسلام وأمان نخدم أرضنا ونعتني بمواشينا إلى أن تفاقم عدوان الإستعمار على شعبنا فنغص حياتنا وبتنا لا نفكر إلا في زواله ولا نجد في أنفسنا حاجة إلا في التخلص منه.
كان لما يداهم بيوتنا يبقر أكياس القمح المصنوعة من الصوف "الغرارة" ويشق أكياس الدقيق المصنوعة من الجلد "المزود" ويخرج النساء من البيوت ويخلط كل ما يجده في المطبخ ويرعب الصغير قبل الكبير. وتلت المرة مرات حتى أدركنا يقينا في قرارة أنفسنا أن لا مناص من هاته الحال إلا الإلتحاق بالثوار والمشاركة في العمل الذي يجعل له هدفا جلاء هذا الكيان المغتصب.
فصرنا نجمع الأموال لمساعدة المجاهدين وأصبح بيتنا المتواضع مركزا وملجأ لهم يستريحون فيه ويتزودون منه وكانت ليلة قدومهم عيدا بالنسبة إلينا تكنس الساحات وتنضج النساء الخبز الطازج المزين بالسانوج في أفران الطين التقليدية وتمكث باقي الكنات خلف الموقد تحضر الكسكس الشهي "السفوف" بينما كنت أنا أنصرف إلى شيّ الخراف المحشوة بالتوابل على الحطب فكان كل الدوار يعبق بتلك الرائحة الطيبة احتفاءا بهم وتشجيعا ودعما لهم في غايتهم المنشودة.
كان سكان الكاف يحبون المجاهدين ويتنافسون على استقبالهم واستضافتهم في كل مرة يطلون علينا وكنا نهرع إلى معانقتهم والترحيب بهم وإدخالهم إلى بيت الضيوف الذي لم يسبق له أن كان بمثل ذلك الرونق ليأخذوا قسطا من الراحة قبل الإنسحاب منه قبيل الفجر على أمل العودة إليه من جديد. كنا نودعهم ونحن نتمنى أن ينصرهم الله عز وجل ويفتح على أيديهم واستمر الحال على ذاك حتى أتى نصر الله.
ذهب الشهيد مرة ومعه مجموعة من الدوار يطلبون المال من أحد الرجال الذين كانوا لا يبعدون كثيرا عن مساكنهم وبينما هم يتناقشون معه كانت كنته تسترق السمع فحفظت ما قالوا وعرفت أسماءهم ووشت بهم بعدها الى العدو ، وما كادت شمس النهار الموالي تطلع حتى طوقت قوات الإحتلال المنطقة وكبلت المناضلين من عائلات مجادي وطايف والعايش وأخذ كل الرجال ولم يتركوا إلا النساء وانطلقت سيارة "الجيب" بهم نحو قرية سيدي الحسني "فالديك".
مكثنا هناك بضعة أيام كل واحد في غرفة على حدة ، لا تسمع منها إلا آهات الأسرى وكنت أسمع أخي الأكبر الجيلالي رحمه الله يصرخ لما يقوى عليه التعذيب : يا الله ! يا رسول الله ! غفر الله له ، أما الشهيد عبد القادر المدعو الحاج فكان عذابه الأشد وخصصت له غرفة ملئ نصفها بالماء لا يقوى على الإستلقاء ويجبر على البقاء مستيقظا طوال الليل وكل ما يريدونه منه كان أن يقول الحقيقة وإلا فالهلاك سيكون مصيره المحتوم.
فكر مليا وبحث عن طريقة للهرب حتى اهتدى الى حديدة كانت مفتاح خروجه بكسر الباب المرتفع مستغلا فرصة تناول السجانين للعشاء فتوكل على الله قائلا في قرارة نفسه أن الموت في الخارج بالرصاص أهون من الموت البطيئ بالتعذيب في هاته الغرفة وانطلق يعدو والأسلاك الشائكة تنخر جسمه وتجرح أطرافه حتى وصل بأسماله البالية الى بيت جارنا الشهيد لكحل بن عيسى الذي استشهد فيما بعد ، فجاء إلى بيتنا هذا الأخير وأخبرنا عنه وطمأننا عليه وأخذ له ملابسه وفي صباح الغد أوصله إلى المجاهدين.
بقي مدة ثم لبس اللباس الذي لا ينزع حتى النصر أو الشهادة ، أي أنه التحق بصفوف جيش التحرير سنة 1956 وانقطعت أخباره بعد ذلك ، أما نحن فأطلق سراحنا في المرة الأولى وعدنا للعمل مع المجاهدين خفية وأكثر حذرا نجمع لهم الأموال ونحمل إليهم الأخبار ونأويهم متى احتاجوا لذلك ، وألقي القبض علينا مرة ثانية وحكم علي بالسجن لعام كامل وحولت إلى وهران أما أخي الجيلالي فبقي بالسجن في تيارت لثمانية أشهر وكذا جيراننا ، أما الشهيد فلم يزرنا بعد هذا إلا مرة واحدة بعد التحاقه بالثورة إلى أن استشهد بجبال تيدة سنة 1961 رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
بفضل الله أولا ثم هؤلاء الشهداء وتضحياتهم ننعم اليوم بالحرية التي أعطت لأبنائنا الحق في الدراسة والعيش الكريم وها هي اليوم إحدى مدارسنا الإبتدائية تحمل إسم الشهيد العايش عبد القادر التي كانت تحت إدارة ابن أخته الذي حمل إسمه وهو حاسي عبد القادر حفظه الله ورعاه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
🇩🇿🇩🇿🇩🇿المجد و الخلود للشهداء الابرار 🇵🇸🇵🇸🇵🇸
تعليقات
إرسال تعليق